الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون} [الشعراء].....................................................وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس:].قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لا يمسه إلا المطهرون} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس: لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم: أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: لكن تدل.
.قال الشنقيطي: قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.يقتضي أنه لم يقسم بهذا القسم.وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} يدل على خلاف ذلك.والجواب من وجهين:الأول- أن (لا) النافية يتعلق نفيها بكلام الكفار فمعناها إذا ليس الأمر كما يزعمه الكفار المكذبون للرسول وعليه أقسم إثبات مؤتنف.الثاني- أن لفظة (لا) صلة وقد وعدنا ببيان ذلك بشواهده في الجمع بين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} مع قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}. اهـ..تفسير الآيات (81- 87): قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَديث أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما أفصح من وصف هذا الكتاب العظيم ما يقتضي أن يكون بمجرده مثبتًا لما لا تدركه العقول من كماله وكافيًا في الإذعان لاعتقاده فكيف إذا كان ما تحكم العقول وتقضي بفساد ما سواه، فكيف إذا كان مما يتذكر الإنسان مثله في نفسه، عجب منهم في جعله سببًا لإنكار البعث الذي إذا ذكر الإنسان أحوال نفسه كفاه ذلك في الجزم به فقال منكرًا تعجبًا: {أفبهذا} ولما كان الإنسان مغرمًا بما يجدد له من النعم ولو هان فكيف إذا كان أعلى النعم قال: {الحديث} أي الذي تقدمت أوصافه العالية وهو متجدد إليكم إنزاله وقتًا بعد وقت {أنتم} أي وأنتم العرب الفصحاء والمفوهون البلغاء {مدهنون} أي كذابون منافقون بسببه تظهرون غير ما تبطنون أنه كذاب وأنتم تعلمون صدقه بحسن معانيه، وعجزكم عن مماثلته في نظومه ومبانيه، وتقولون: لو شئنا لقلنا مثل هذا: وجميع أفعالكم تخالف هذا فإنكم تصبرون لوقع السيوف ومعانقة الحتوف، ولا تأتون بشيء يعارضه يبادئ شيئًا منه أو يناقضه أو تلاينون أيها المؤمنون من يكذب به ويطعن في علاه أو يتوصل ولو على وجه خفي إلى نقض شيء من عراه، تهاونًا به ولا يتصلبون في تصرفه تعظيمًا لأمره حتى يكونوا أصلب من الحديد، قال في القاموس: دهن: نافق، والمداهنة: إظهار خلاف ما تبطن كالإدهان والغش، وقال البغوي رحمه الله: هو الإدهان وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر، وقال الرازي: والفرق بين المداراة والمداهنة يرجع إلى القصد، فما قصد به غرض سوى الله فهو المداهنة، وما قصد به أمر يتعلق بالدين فهو المداراة، وقال ابن برجان: الإدهان والمداهنة: الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز- انتهى.فهو على هذا إنكار على من سمع أحدًا يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وابن الفارض صاحب التائية أول من صوبت إليه هذه الآية، فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلًا ورأسًا ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين، ومن يؤول لهم أو ينافح عنهم ويعتذر لهم أو يحسن الظن بهم مخالف لإجماع الأمة أنجس حالًا منهم فإن مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه.ولما كان هذا القرآن متكفلًا بسعادة الدارين، قال تعالى: {وتجعلون رزقكم} أي حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} أي توجدون حقيقة التكذيب في الماضي والحال، وتجددون ذلك في كل وقت به وبما أرشد إليه من الأمور الجليلة وهي كل ما هو أهل للتصديق به وتصفونه بالأوصاف المتناقضة، ومن ذلك ما أرشد إليه من أنه لا فاعل إلا الله تعالى فتقولون أنتم إذا أمطركم ما يرزقكم به: هذا بنوء كذا، معتقدين تأثير ذلك النوء، وإنما هو بالله تعالى، فجعلتم جزاء الرزق وبذل الشكر على الرزق التكذيب، وقال ابن برجان: وتجعلون رزقي إياكم من قرآن عظيم أنزلته، وكلام عظيم نزلته، ونور إيمان بينته، وضياء يقين جليته، وما أنزلته من السماء من بركات قدرتها ومن رياح أرسلتها، وسحب ألفتها، تجعلون مكان الشكر على ذلك التكذيب.ولما أنكر عليهم هذا الإنكار، وعجب منهم هذا التعجيب في أن ينسبوا لغيره فعلًا أو يكذبوا له خبرًا، سبب عن ذلك تحقيقًا لأنه لا فاعل سواه قوله: {فلولا} وهي أداة تفهم طلبًا بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى هل لا ولم لا {إذا بلغت} أي الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة {الحلقوم} وهو مجرى الطعام في الحلق، والحلق مساغ الطعام والشراب معروف، فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان لأن الميم لمنقطع التمام، {وأنتم} أي والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له {حينئذٍ} أي حين إذ بلغت الروح ذلك الموضع.ولما كان بصرهم لكونه لا ينفذ في باطن كالعدم قال: {تنظرون} أي ولكم وصف التحديق إليه ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر، ولم يقل: تبصرون، لئلا يظن أن لهم إدراكًا بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح وغيرها نحوها {ونحن} أي والحال أنا نحن بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي المحتضر حقيقة بعلمنا وقدرتنا التامة وملائكتنا {منكم} على شدة قربكم منه {ولكن لا تبصرون} أي مع تحديقكم إليه لا يتأثر عن ذلك التحديق غايته، وهو الإبصار لقربنا منه، ولا ملائكتنا الموكلين بقبض روحه، لتعلموا أن الفعل لنا لا لغيرنا، فلا يتجدد لكم شيء من هذا الوصف لتدركوا به حقيقة ما هو فيه، فثبت ما أخبرنا به من الاختصاص بباطن العلم والقدرة اللذين عبرنا عنهما بالقرب الذي هو أقوى أسبابها.ولما كان الكلام لإثبات هذه الأغراض المهمة قبل جواب (لولا) أعادها تأكيدًا لها وتبينًا فقال: {فلولا إن كنتم} أيها المكذبون بالبعث وغيره {غير مدينين} أي مقهورين مملوكين مجربين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين بامتناعكم بأنفسكم عن أن يجازيكم أو يمنع غيركم لكم منه، وأصل تركيب (دان) للذل والانقياد- قاله البيضاوي {ترجعونها} أي الروح إلى ما كانت عليه {إن كنتم} أي كونًا ثابتًا {صادقين} أي في أنكم غير مقهورين على الإحضار على الملك الجبار الذي أقامكم في هذه الدار للابتلاء والاختبار، وأنه ليس لغيركم أمركم، وفي تكذيبكم لما يخبر به من الأمور الدنيوية بذل شكركم، وهذا دليل على أنه لا حياة لمن بلغت روحه الحلقوم أصلًا وهذا إلزام لهم بالبعث حاصله أنه سبحانه إن كان لا يعيدكم فليس هو الذي قدر الموت عليكم، وإن كان لم يقدره فما لكم لا ترفعونه عنه لأنه من الفوادح التي لا يدرك علاجها، وأنتم تعالجون مقدماته.وإن قلتم: إنه مقدر لا يمكن علاجه، لزمكم الإقرار بأن البعث مقدر لا يمكن علاجه، فإن أنكرتم أحدهما فأنكروا الآخر، وإن أقررتم بأحدهما فأقروا بالآخر، وإلا فليس إلا العناد، فإن قلتم: نحن لا نعلم أنه قدره فاعلموا أنه لو لم يكن بتقديره لأمكنت مقاومته وقتًا ما لاسيما والنفوس مجبولة على كراهته، وفي الموتى الحكماء والملوك، وتقريبه أنكم قد بالغتم في الجحود بآيات الله تعالى وأفعاله في كل شيء إن أرسل إليكم رسولًا قلتم: ساحر كذاب، وإن صدقه مرسله بكتاب معجز قلتم: سحر وافتراء وأمر عجاب، وإن رزقكم من الماء الذي به حياة كل شيء مطرًا ينعشكم به قلتم: صدق نوء كذا، على حال مؤد إلى التعطيل والإهمال والعبث، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن عند بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم مدبر لهذا الكون بالإرسال والإنزال وإفاضة الأرواح وقبضها وبعث العباد لدينونتهم على ما فعلوا فيما أقامهم فيه، تمثيل بأفعال الملوك على ما يعهد، فكما أن ملوك الدنيا لا يرسل أحد منهم إلى أحد من رعيته فيأخذه قهرًا إلا للدينونة فكيف يظن بملك الملوك غير ذلك، فتكون ملوك الدنيا أحكم منه، فإن كان ليس بتمام القدرة فافعلوا برسله كما تفعلون برسل الملوك، فإنه ربما خلص المطلوب منهم بنوع من أنواع الخلاص بعد بلوغه إلى باب الملك فإرساله سبحانه هو مثل إرسال الملوك غير أنه لتمام قدرته يأخذ أخذًا لا يقدر أحد على رده، ولا أن يتبع مأخوذه أصلًا لا ليخدمه بعد الأخذ ولا ليخفف عنه شيئًا مما هو فيه بغير ما أمر به سبحانه على ألسنة رسله من الدعاء والصدقة ولا ليعلم حاله بوجه من الوجوه بل الأمر كما قيل:ولم يخبر الأفكار عنه بما يغني. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {أَفَبِهَذَا الْحَديث أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)} وفيه مسائل:المسألة الأولى:(هذا) إشارة إلى ماذا؟ فنقول: المشهور أنه إشارة إلى القرآن وإطلاق الحديث في القرآن على الكلام القديم كثير بمعنى كونه اسمًا لا وصفًا فإن الحديث اسم لما يتحدث به، ووصف يوصف به ما يتجدد، فيقال: أمر حادث ورسم حديث أي جديد، ويقال: أعجبني حديث فلان وكلامه وقد بينا أن القرآن قديم له لذة الكلام الجديد، والحديث الذي لم يسمع الوجه الثاني: أنه إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى: {وَكَانُواْ يِقولونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَاؤُنَا الأولون} [الواقعة: 47، 48] وذلك لأن الكلام مستقل منتظم فإنه تعالى رد عليهم ذلك بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين} [الواقعة: 49] وذكر الدليل عليهم بقوله: {نَحْنُ خلقناكم} [الواقعة: 57] وبقوله: {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] وأقسم بعد إقامة الدلائل بقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} [الواقعة: 75] وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ} [الواقعة: 77] ثم عاد إلى كلامهم، وقال: {أفبهذا الحديث} الذي تتحدثون به {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه، أم أنتم به جازمون، وعلى الإصرار عازمون، وسنبين وجهه بتفسير المدهن، وفيه وجهان أحدهما: أن المدهن المراد به المكذب قال الزجاج: معناه أفبالقرآن أنتم تكذبون، والتحقيق فيه أن الإدهان تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالًا ثانيًا وهذا إذا قلنا: إن الحديث هو القرآن والوجه الثاني: المدهن هو الذي يلين في الكلام ويوافق باللسان وهو مصر على الخلاف فقال: {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} فمنهم من يقول: إن النبي كاذب، وإن الحشر محال وذلك لما هم عليه من حب الرياسة، وتخافون أنكم إن صدقتم ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل، والأول عليه أكثر المفسرين، لكن الثاني مطابق لصريح اللفظ فإن الحديث بكلامهم أولى وهو عبارة عن قولهم: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47] والمدهن يبقى على حقيقته فإنهم ما كانوا مدهنين بالقرآن، وقول الزجاج: مكذبون جاء بعده صريحًا.
|